العودة المفاجئة لعلي حسين مهدي: لغز التسريبات وضغوط السياسة الدولية

اشتهر المعارض المصري الشاب علي حسين مهدي خلال السنوات الماضية بنشر مقاطع مصورة مسربة وأخبار حصرية لا يمكن أن تخرج من مصر إلا عبر وكلاء نافذين داخل المفاصل الأمنية للدولة. ويعد علي حسين، الذي حصل على لجوء سياسي في الولايات المتحدة منذ عدة سنوات حسب قوله، أول من عرض عدة فيديوهات لكبار المعتقلين الإسلاميين من داخل محابسهم الفردية المحاطة بإجراءات أمنية مشددة، حيث يخضعون لمراقبة بالكاميرات والأضواء على مدار الساعة.
على مدار السنوات الماضية كان علي يختفي لفترات ثم يعود للظهور مجددا. وقد حاولت الحكومة المصرية إسكات صوته في مناسبات عديدة، سواء عبر اعتقال أهله أو بوسائل أخرى معروفة لدى الحكومات العربية، لكنها لم تنجح في ذلك.
وبحسب ما نشره على حساباته في وسائل التواصل الاجتماعي، فإنه لم يكن قادرا على مغادرة الولايات المتحدة بسبب حظر سفر فُرض عليه من جهة أمنية أمريكية. وقد وضع هذا القرار سلطات المطارات الأمريكية في موقف محرج إذ لم يسبق لهم التعامل مع حالة مماثلة، وفق تصريحاته. ويبدو أن الحكومة المصرية تمكنت من خلال الضغط على واشنطن من إبقائه في هذا الوضع، ليعيش كما لو كان مسجونا وإن كان حرا، فالسياسة لا تحدها حدود ولا توقفها القوانين.
وبصورة مفاجئة أعلن الناشط يوم الرابع والعشرين من مايو 2024 عبر حساباته على منصات التواصل الاجتماعي عودته الطوعية إلى مصر من أمريكا. وقال إنه عاد ليكون في صف بلده ويعارض من الداخل، وهي العبارة التي تتكرر كثيرا على ألسنة الحكومة المصرية ومؤيديها وأجهزتها الأمنية. كما شكر كل من حاول ثنيه عن قراره وأكد امتلاكه معلومات سيكشف عنها في الوقت المناسب، وهو ما لم يحدث حتى الآن وربما لن يحدث إلا بعد وفاته.
هذا الإعلان أثار كثيرا من التساؤلات والتكهنات حول الأسباب التي دفعته إلى هذا المنحى العكسي المفاجئ، في وقت حساس تتهم فيه إسرائيل الحكومة المصرية بتخريب اتفاقية الهدنة بينها وبين حماس. وقد تحدثت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن استياء القاهرة من عجز إسرائيل عن القضاء على حماس حتى الآن، كما صرح بذلك السفير الإسرائيلي السابق عبر قناة 14 ونشرت تصريحاته مترجمة.
من يسرب الأخبار لعلي مهدي؟
تشكل خطورة علي مهدي على النظام المصري أساسا في مصادره التي لم تتمكن الأجهزة الأمنية حتى الآن من كشفها. فقد حصل على العديد من الوثائق الحساسة ونشر الكثير منها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مما مثل تهديدا كبيرا للنظام. وبذل النظام جهودا واسعة لوقف هذه التسريبات، مدركا أن المزيد منها قد يسبب له أزمات خطيرة.
في عام 2022، وبعد نشره بعض الوثائق والفيديوهات، اعتقلت السلطات المصرية والد علي كوسيلة للضغط عليه. وكان علي قد صرح قبل هذا الاعتقال بأنه سيوقف نشر الوثائق التي طالبوه بعدم نشرها مقابل الإفراج عن والده، غير أن النظام لم يلتزم بوعوده.
ويزداد الموقف خطورة مع عجز النظام عن تحديد هوية المصادر التي تمده بهذه الوثائق. ويبدو أن تلك المصادر تعمل من داخل مؤسسات الدولة أو تتمتع بوصول إلى معلومات حساسة، وهو ما يثير قلق الأجهزة الأمنية. فعدم القدرة على كشفها يعني أن النظام يظل معرضا لتسريبات مستقبلية أشد خطورة.
استمرار هذه التسريبات يكشف عن خلل أمني كبير داخل النظام المصري، ويعكس عجزه عن السيطرة على المعلومات الحساسة. وهو وضع يزيد الضغوط عليه وقد يدفعه إلى اتباع أساليب قمعية أكثر عنفا ضد النشطاء والمعارضين داخل مصر وخارجها.
وإذا استمر الحال على هذا النحو، فقد يلجأ النظام إلى خطوات أكثر قسوة للحد من التسريبات، بما في ذلك محاولة إسكات المعارضين في الخارج بأي وسيلة ممكنة. وقد يؤدي ذلك إلى مزيد من الاعتقالات والتضييق على الحريات، ليس فقط داخل مصر بل أيضا على مستوى اللاجئين والمعارضين في الخارج، الذين قد يتعرضون لضغوط مشابهة لتلك التي تعرض لها علي مهدي ووالده.
الأسلوب السياسي لعلي مهدي
تميز علي مهدي بأسلوب سياسي فريد لا يمكن اعتباره منسجما مع أفكار الإخوان المسلمين، بل كان أقرب في بعض ملامحه إلى الطابع الجهادي. ومع ذلك كان يهاجم قادة الإخوان بنفس الحدة التي يهاجم بها النظام المصري، ما جعل تصنيفه كجهادي أمرا صعبا. فخطاباته كانت بعيدة عن أبجديات التيار الجهادي، بينما أسلوبه في النقد والحديث أقرب إلى الطابع الليبرالي.
وقد استخدم كثيرا أسلوب الشتائم والسباب بشكل مبالغ فيه، على نحو يشبه الناشط المصري الأمريكي بهجت صابر. هذا الأسلوب الهجومي الحاد، سواء ضد قادة الإخوان أو النظام، جعله شخصية مثيرة للجدل وخارج الأطر السياسية التقليدية. ورغم ذلك لا تزال وسائل الإعلام الرسمية تصفه بالناشط الإخواني.
كما استغل منصاته على وسائل التواصل لنشر مقاطع مصورة توثق انتهاكات حقوق الإنسان والتجاوزات الأمنية في مصر، مما زاد حدة الهجوم عليه من قبل النظام. وفي الوقت نفسه لم يتردد في انتقاد قادة الإخوان وسياساتهم، وهو ما أضفى مزيدا من التعقيد على صورته السياسية.
هذا النهج غير التقليدي جعله هدفا مباشرا للنظام الذي حاول إسكات صوته عبر وسائل مختلفة، منها اعتقال أفراد من عائلته والضغط النفسي عليه. ومع ذلك واصل نشاطه، ليصبح في نظر بعض المعارضين رمزا للمقاومة.
لكن حدة خطابه أثارت تساؤلات حول مدى فعالية هذه الأساليب في خدمة أهدافه. فبينما اعتبرها البعض تعبيرا عن غضب مشروع، رأى آخرون أنها تضر بالقضية التي يدافع عنها لأنها تنفر بعض الفئات التي كان يمكن أن تكون مؤيدة له.
إن تعقيد شخصية علي مهدي وتنوع أسلوبه السياسي يعكسان التباين داخل المعارضة المصرية، ويظهران واقعا سياسيا معقدا يتجاوز التصنيفات التقليدية، مما يجعل فهم هذه الحركات وتحليلها مهمة صعبة.
هل تضحي أمريكا باللاجئين السياسيين مقابل ولاء مصر؟
أحد التفسيرات لعودة علي حسين مهدي الطوعية، والتي قد تبدو غير متوقعة في ضوء البيان الرسمي الذي استخدم لغة أمنية مشددة، هو أنه تعرض لضغوط داخل الولايات المتحدة أجبرته على اتخاذ هذا القرار. ويبدو أن هذه الضغوط جاءت في إطار محاولة أمريكية لإثبات دعمها لمصر في سعيها لكشف الجهات التي كانت تسرب المعلومات له، بما يمنح النظام المصري فرصة لتحديد ومعاقبة المتعاونين معه من الداخل.
تحاول واشنطن إعادة القاهرة إلى المعسكر الغربي بمختلف الوسائل، بينما تتجه الأخيرة أكثر نحو المعسكر الشرقي بقيادة روسيا والصين. وقد ظهر هذا التوجه في إعادة تعيين ضابط مرفوض من إسرائيل لإدارة ملف التفاوض بين حماس وإسرائيل، وفي محاولات إحياء العلاقات مع إيران، إضافة إلى الزيارات المتكررة لمسؤولين روس إلى مصر في الأسابيع الماضية.
وتنظر الولايات المتحدة إلى هذا المسار باعتباره اصطفافا مع المعسكر الشرقي، إذ تعتمد منطق إما معنا أو ضدنا ولا تعترف بالحياد.
وإذا صح هذا التحليل فإن اللاجئين السياسيين المصريين في أوروبا وأمريكا والدول الغربية قد يواجهون وضعا بالغ الصعوبة، وقد يتم التضحية بهم من قبل الحكومات التي تستضيفهم لإرضاء مصر. وقد يتجلى ذلك في ضغوط مباشرة أو إجبارهم على إصدار بيانات تعلن عودتهم الطوعية، على غرار ما يحدث مع اللاجئين السوريين في تركيا حيث يُجبر بعضهم على التوقيع على وثائق عودة تحت تهديدات من ضباط الشرطة، رغم نفي أنقرة المتكرر لذلك.