أسطورة الأمنجي المسبق: لماذا تفشل المعارضة المصرية؟ وكيف توقف النزيف؟

في كل مرة يسقط فيها شخص من صفوف المعارضة، أو يعود إلى مصر معلنًا عن مواقف مؤيدة للنظام المصري الحالي بعدما كان من أشد المعارضين له ولو إعلاميا فقط، تتعالى الأصوات في الداخل (المعارضة) سريعًا لتقول: "ده كان أمنجي من الأول" أو "كان مندس وسطنا" أو "كنا عارفين إنه كده من البداية".
هذه الرواية الجاهزة والاتهامات المعلبة تمنح الجميع راحة نفسية… لكنها أيضًا تمنعنا من مواجهة الحقيقة.
بين التحييد والتجنيد
ليس بالضرورة أن يكون من عاد إلى مصر عميلًا (بالمنطق الثوري) منذ اللحظة الأولى بل أكاد أجزم بأن ما يحدث هو نتيجة نجاح النظام في تحييد بعض خصومه، أو حتى تجنيدهم لاحقًا، وهذا نجاح يجب أن نعترف به بدلا من أن نخفيه وراء شماعة "الأمنجي"، فالنظام المصري لديه من المؤهلات الكثير والتي تؤهله لتحييد هؤلاء إما عن طريق ابتزاز ذويهم أو أقاربهم أو إستغلال نقاط الضعف الشخصية لدى كل هدف له بالإضافة إلى التعاون الدولي من قبل الدول التي تقطن المعارضة فيها، كما أن سهولة الوقوع في فخاخ قانونية كما حدث في حالة علي حسين مهدي، بحسب ما هو متداول، تسهل على النظام المصري المطالبة به وتسهل على الدولة المستضيفة تسليمه أو على الأقل عدم توفير الحماية اللازمة له.
دور المعارضة في صناعة خصومها
أحيانًا لا يكون النظام وحده هو المسؤول عن سقوط هؤلاء في هذا الوحل، بل سوء إدارة المعارضة نفسها هي السبب الأهم، حيث لا تزال الخلافات الحادة تسيطر على كافة الأطراف، ولا تزال المعارضة تتعامل بمبدأ "ﻷ، مش تبعنا" ومنهج التخوين والإقصاء، وقد رأينا ذلك واضحا وجليا في مقابلة الدكتور محمود حسين - القائم بأعمال المرشد - جبهة تركيا - في حلقته التي بثت في ذكرى مجزرة رابعة العدوية.
كل هذه الأمور بالإضافة إلى انعدام الثقة نتيجة السياسة الأمنية التي مارسها النظام والتي جعلت المعارضة متشككة دائما في كل عنصر، كل ذلك يجعل بعض الأشخاص يشعرون أن خصومهم داخل المعارضة أشد قسوة من خصومهم في النظام، وأنه لا طائل من الوقوف ضد التيار الأقوى - تيار النظام - وبالتالي فإن سهولة العودة حتى مع مضاعفاتها الشديدة تكون خيارا قويا في الكثير من الأوقات.
إن غياب القنوات المفتوحة والاحترام المتبادل بين مكونات المعارضة سهّل للنظام مهمة اختراقها وكسب بعض أفرادها.
السلاح المزدوج: التجنيد من الطرفين
مثلما ينجح النظام أحيانًا في اختراق صفوف المعارضة، هناك أيضًا حالات نجحت فيها المعارضة في اختراق مؤسسات النظام والحصول على تسريبات حساسة. والمفارقة أن بعض هذه المصادر جاءت من أشخاص في قلب إعلام النظام أو محسوبين على رجالاته الكبار.
مواجهة الذات بدل الأساطير
لن يكون علي حسين مهدي الأخير كما لم يكن حسام الغمري وستتوالى الانشقاقات والعودة إذا أصرت المعارضة على أن تفسر كل انشقاق أو سقوط بأنه "خيانة من البداية"، فإنها بذلك تغلق الباب أمام أي مراجعة حقيقية لصفوفها، وتكرر نفس الأخطاء والتي في النهاية ستؤدي إلى ألا يتبقى في الصف إلا القليل والقليل يوما بعد يوم… حتى لا يبقى أحد.
من سقوط الأفراد إلى انهيار الصف: كيف توقف المعارضة نزيفها قبل أن يفنيها التصنيف؟
إذا أرادت المعارضة المصرية أن توقف نزيف الانشقاقات والعودة إلى صفوف النظام، فعليها أولًا أن تواجه نفسها قبل أن تواجه خصومها وذلك عبر إصلاح البنية الداخلية للمعارضة ككل والتجمع لا التشرذم والثقة لا التخوين عبر وسائل عديدة منها :
- كسر ثقافة التخوين ووضع ميثاق يمنع الاتهام بالعمالة دون أدلة، مع إنشاء آلية داخلية للتحقيق بدلا من تصفية الحسابات علنًا مما يضعف البنية الداخلية للمعارضة ويثير الشك بين أبنائها.
- تحسين إدارة الخلافات بين مكوناتها المختلفة (إسلامية، مدنية، قومية...)، وصناعة منصات حوار تركز على القواسم المشتركة بدلا من تضخيم الفوارق.
- الحفاظ على قنوات التواصل مع الجميع حتى مع المختلفين أو المشتبه في قربهم من النظام، لأن بعضهم قد يعود إذا وجد بيئة احتواء آمنة.
- تطوير الحماية القانونية والسياسية للمعارضين المهددين، بدعمهم عبر شبكات محامين ومنظمات حقوقية، وكسب تعاطف الرأي العام الدولي.
- وضع استراتيجية ضغط دولية وإعلامية موحدة، تقوم على تنسيق الخطاب بين مختلف منصات المعارضة، بحيث تتكامل الجهود بدل أن تتناقض. هذه الاستراتيجية يجب أن تشمل التواصل المستمر مع وسائل الإعلام الغربية والمنظمات الحقوقية الدولية لعرض الانتهاكات بشكل موثق ومنهجي، وتوضيح أن قمع المعارضين — بمن فيهم "المصنَّفون" — هو أداة سياسية بيد النظام، وليس مسألة أمنية بحتة. على أن يكون التحرك منظمًا، طويل النفس، ويستهدف تغيير صورة المعارضة في الخارج وكسر الرواية الرسمية التي يسوق لها النظام، بدلا من الاكتفاء بخطاب موجه للجمهور الداخلي فقط ويشمل ذلك النشر بلغات مختلفة، لا الاكتفاء بالعربية.
الحلول وتجنب فخ التصنيف
إن أحد أهم الأدوات التي يستخدمها النظام المصري ضد المعارضة هي استراتيجية التصنيف، عبر اتهام جميع خصومه بالإرهاب، ثم الضغط على القوى الغربية لتبنّي هذه الرواية،حتى يتسنى له فرز المعارضة إلى "مصنّفين" و"غير مصنّفين". هذا الفرز يدفع الكثير من القوى السياسية إلى الابتعاد عن "المصنّفين" خوفًا من الارتباط القانوني أو السياسي بهم، فيُترَكون لمصيرهم، بينما يقوم النظام بتركيز ضرباته على الأكثر تأثيرًا وخطورة.
والحل لا يكمن في تبني أعمال العنف أو الدفاع عنها، والتي تمنح النظام الذريعة الكاملة في ملاحقة الجميع دوليا وإقليميا،وإنما يكمن الحل في صياغة موقف ذكي مزدوج من حيث:
-
الرفض المبدئي للعنف كأداة للعمل السياسي داخل مصر، بما يؤمن حماية لمسار المعارضة ومنع إعطاء ذرائع إضافية للقمع الداخلي والخارجي، والتأكيد على أن المقاومة المسلحة للنظام على غرار الطريقة السورية لا يتأتي في مصر حيث أن طباع ومكونات الشعب مختلفة.
-
الدفاع السياسي والقانوني عن حقوق جميع المعارضين، بمن فيهم المصنّفون، وذلك عبر المطالبة بمحاكمات عادلة ورفض التصفية والإخفاء القسري، وفضح استخدام التصنيف كأداة لتصفية الحسابات السياسية.
بهذا، يمكن للمعارضة أن تحافظ على لحمتها، وتمنع النظام من عزل واستهداف الأطراف الأضعف أولًا، ثم الانتقال لبقية الصف، وهي الاستراتيجية التي تنتهي غالبًا بـ"أُكِلْتُ يوم أُكِلَ الثور الأبيض".