مقال رأي: بيان الخارجية المصرية… بين التنديد الفارغ وغسل الأيدي

في الخامس من سبتمبر ٢٠٢٥، أصدرت وزارة الخارجية المصرية بيانًا علّقت فيه على تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بشأن تهجير الفلسطينيين عبر معبر رفح. اللافت أن البيان وصف هذه التصريحات بأنها "منسوبة"، رغم أنها خرجت في العلن بشكل واضح لا يقبل اللبس. وبالنظر إلى البيان بالكامل يظهر جليًا جوهر المشكلة: اختيار مقصود لصياغة لغوية ملتوية، تكشف تردّد النظام المصري وخوفه من مواجهة مباشرة.
وهذا ليس تفصيلاً لغويًا عابرًا، بل مدخل يكشف طبيعة البيان كله، حيث تتكرر فيه نفس السمات: مراوغة في الكلمات، غياب للمواقف الحاسمة، واعتماد على التنديد بدلاً من الفعل.
"منسوبة": كلمة تكشف سياسة لا صدفة
حين تختار وزارة الخارجية أن تصف كلاما علنيا بلفظة "منسوب"، فهي حينها لا تسجل موقفا وإنما تمارس مراوغة سياسية، فهذه الكلمة لا تعكس حرصا على الدقة بقدر الحرص على ترك مساحة للإنكار مستقبلا، فيما يبدو وكأن القاهرة تبقي لنفسها بابا مفتوحا للانسحاب من أي التزام لاحق.
وفي مثل تلك البيانات والتي تكتب بعناية فإن الأمر لا يتعلق بزلة لسان أو خطأ صياغة، بل بنهج كامل في إدارة الخطاب حيث التظاهر بالاعتراض من بعيد مع تجنب أي مواجهة صريحة أو تحميل مباشر للمسؤولية.
شجب بلا فعل
يمتلئ البيان بعبارات الشجب والتنديد: "تستنكر"، "ترفض"، "تؤكد"، "تدين"، لكن حين نبحث عن أي خطوة عملية ستتخذها مصر تجاه ما تطرحه إسرائيل، لا نجد شيئًا.
لمّحت مصر في بيانها، الذي حاول أن يبدو قويًا في ظاهره، إلى الرفض اللفظي فقط. لم نسمع أي تهديد بتجميد العلاقات مع تل أبيب، أو تحرك في مجلس الأمن، أو حتى مراجعة معاهدة السلام واتفاقيات الغاز والطاقة. المفارقة أن إسرائيل نفسها صرّحت بأنها ستراجع هذه الاتفاقيات، ما يعزز الانطباع بأنها الطرف المتحكم في مسار الحدث لا مصر.
كما بدت مصر في البيان وكأنها تلقي بالمسؤولية على "المجتمع الدولي"، لتظهر كطرف محايد يراقب الأزمة من بعيد، لا كدولة معنية مباشرة بحدودها ومستقبلها وأمنها القومي.
"لن تكون شريكة": صياغة للتنصل لا للمواجهة
برأيي إن أخطر ما في هذا البيان هي جملة: "لن تكون مصر شريكة في أي مسعى يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية".
هذه العبارة فضفاضة، تبدو في ظاهرها رفضًا قاطعًا للتهجير، لكنها في حقيقتها تحمل كل معاني التنصل. فهي لا تقول: "لن تسمح"، ولا تقول: "ستمنع"، بل تكتفي بأن مصر لن تشارك في هذه العملية.
بمعنى آخر: إذا حدث التهجير بالقوة أو بالضغط الإسرائيلي، فالمصريون أعلنوا مسبقًا أنهم فقط "لن يكونوا شركاء" وأنهم لن يقبلوا بأن يحدث التهجير إلى مصر ولكن لا مانع من أن يحدث لأي مكان آخر كما أننا لن نوقفه بل سنظل فقط نشجبه وندينه.
إن وجود هذه الجملة في البيان هي إعلان مسبق بأن مصر لن تقود المواجهة ولن تتحمل ثمنها، بل ستقف على الهامش مراقبة ما يحدث.
الغموض حول معبر رفح
جاء البيان مكررا الحديث عن رفض التهجير "عبر معبر رفح"، لكنه لا يوضح كيف ستتعامل الدولة المصرية ونظامها إذا فرضت إسرائيل هذا السيناريو بالقوة. هل ستغلق مصر المعبر بالقوة العسكرية؟ هل ستعتبر أي محاولة اقتحام تهديدًا لسيادتها؟ وماذا لو أُجبر الفلسطينيون على العبور، هل ستواجههم السلطات بالقوة؟ إن الصمت حيال هذه الأسئلة في كل بيانات الوزارة وتصريح المسؤولين المصريين مقصود، لأن مصر تريد أن تظهر رفضًا لفظيا من دون التزام عملي يقيد خياراتها المستقبلية.
التناقض بين النبرة الحادة واللغة الناعمة
في موضع يتحدث البيان عن "جرائم تطهير عرقي"، ثم في السطر التالي يناشد المجتمع الدولي "وقف العدوان" و"دعم السلطة الفلسطينية". هذا التناقض بين حدة الاتهام ونعومة المطالبات يضعف الموقف المصري ويكشف أنه خليط من رسائل متناقضة، نصفها موجه للداخل الغاضب، ونصفها الآخر مطمئن للخارج المتوجس.
استدعاء المجتمع الدولي: هروب للأمام
كالعادة، يضع النظام المصري كل ثقله على "المجتمع الدولي" و"مجلس الأمن" و"المحكمة الجنائية الدولية"، وكأن النظام المصري لا يملك أوراق ضغط. وفي واقع الأمر، تمتلك مصر أوراقا كثيرة في ملف الضغط مثل اتفاقية كامب ديفيد، التنسيق الأمني، اتفاقيات الغاز والطاقة بل وحتى قناة السويس.
لكن القاهرة تفضل الاكتفاء بالاستجداء الدبلوماسي لتفادي أي صدام مع إسرائيل أو داعميها وهذا يقودنا للتساؤل مجددا عن حجم التأثير المصري في المنطقة، وعن أسباب خوف النظام من إغضاب الإسرائيليين بتصريحات مباشرة، في وقت لا يتردد فيه نتنياهو عن التصريح بما يشاء.
خلاصة: بيان يطمئن إسرائيل أكثر مما يهددها
بين السطور، البيان المصري ليس رسالة تهديد بل رسالة طمأنة. مصر تقول بوضوح: لن نعارض جوهريًا مبدأ التهجير، ولن نبذل أي خطوات حقيقية لإيقافه، فقط نرجو ألا يتم عبر حدودنا. أما أبعد من "التنديد" و"المناشدة" فلن نذهب.
وحتى حين نصف الجرائم بالتطهير العرقي، فإننا نفعل ذلك بلغة إنشائية خالية من أي خطة فعلية.
البيان يكشف أن النظام المصري يحاول إرضاء الشارع الغاضب بالرفض اللفظي، بينما يرسل في الوقت نفسه إشارات طمأنة لإسرائيل والعالم: لن نكون شركاء، لكننا أيضًا لن نمنعكم بالقوة.