طه: ساعة ونصف من الصمت الذي لم تعرفه المعارضة منذ عشر سنوات

في السياسة، الإسلامي واليساري و"شباب الثورة" لا يجلسون في غرفة واحدة إلا ليخرجوا منها ببيانين متناقضين.
لكن في "طه"، جلسوا أمام الكاميرا، تكلموا بلسان واحد وخرجوا لنا بقصة واحدة.
ربما لأول مرة منذ الانقلاب العسكري، تلاقت التيارات الثلاثة، لا في ميدان التحرير، ولا في قاعة حوار، بل على شاشة عرض، تروي نفس المأساة التي صنعتهم فرادى ومزّقتهم جماعة.
خليط لم نره منذ أن تفرّق الميدان. أمام الكاميرا عادوا ليتحدثوا عن المصيبة نفسها: الانقلاب العسكري، وما فعله بنا، وكيف مزق حياتنا إلى أشلاء، وكيف انعكس ذلك على مصائر من حملوا يومًا الحلم نفسه.
الفيلم، بميزانية الهواة لكن بجرأة المحترفين، لم يقدّم حكاية بطل خارق أو خطابًا سياسيًا مباشرًا، بل مرآة صغيرة لمشهد المعارضة المصرية في المنفى: شخصيات تحمل وجوهًا مألوفة، وصراعات يمكن أن تجد صداها في أي واحد منا، بين الهروب والمواجهة، بين الانكسار ومحاولة لملمة ما تبقى.
"طه" فعل ما عجزت عنه المؤتمرات السياسية وصفحات الفيسبوك: جمع المختلفين ليتكلموا عن نفس الجرح ويصارحوا به أنفسهم قبل مشاهديهم.
لم يكن الأمر عن التفاهم أو "الوحدة الوطنية"، بل عن الاعتراف بأن الانكسار واحد، والمصير واحد، حتى لو اختلفت الأفكار التي رفعناها يومًا.
الفيلم يلمّح بلا مجاملة إلى ابتزاز الأمن المصري للمعارضين في الخارج عبر أهلهم في الداخل، وإلى الشكوك التي تزرعها هذه الممارسات داخل الشتات، وكيف أن الانقسام لم يكن دائمًا بفعل السلطة وحدها، بل بفعلنا نحن أيضًا.
في لحظة ما، وأنت تتابع المشاهد القاسية، تدرك أن "طه" ليس مجرد فيلم عن لاجئين، بل درس بصري في السياسة: أن الجبهة الواحدة التي فشلنا في بنائها على الأرض، يمكن أن تتكوّن — ولو لساعة ونصف — على شاشة عرض.
"طه" يضع كل هذا على الطاولة دون محاولة تجميل أو دبلوماسية. هو فيلم يجعل الجميع في قفص الاتهام، أمام جمهورهم وأمام أنفسهم، ويذكّرنا بالجملة التي لا نحب أن نسمعها: أُكِلْتُ يوم أُكِلَ الثور الأبيض.
ربما لن يغيّر الفيلم مسار المعارضة المصرية، لكنه يترك لنا سؤالًا يطاردنا بعد خفوت الأضواء:
إذا كان الفن استطاع أن يجمعنا ساعة ونصف دون أن نتقاتل، فما الذي يمنعنا خارجه؟
وفي النهاية… "طه" لم يجمع الفرقاء لأنهم اتفقوا فجأة، ولا لأنهم قرروا أن يصفحوا عن بعضهم، بل لأن الكاميرا لا تستطيع أن تقاطع، ولا المونتاج يسمح بالمزايدة. ربما لهذا كان الاتفاق الوحيد الممكن… على شاشة، وتحت إضاءة، وبين مشهدين. أمّا في الواقع الملموس، فسنعود غدًا لنأكل الثور الذي تبقى… إن بقي.