عدو في الخطاب .. حليف في الميدان

عدو في الخطاب .. حليف في الميدان

بواسطة حمزة حسن
السبت 20 سبتمبر 2025

لقد كان شهر سبتمبر 2025 شهرًا مليئًا بما يمكن أن يظهر كما لو أنه تناقضات في الموقف المصري الإسرائيلي. فقط وخلال عشرة أيام في الشهر جرت ثلاثة أحداث متباعدة متقاربة؛ فهي متباعدة كما تظهر لكنها متقاربة كما لم تظهر.

بدءًا من انتهاء مناورات النجم الساطع 2025 المصرية الأمريكية المشتركة، ثم تلاها قمة الدوحة للتعليق السياسي من قبل الحكام العرب على حادثة قصف إسرائيل لقطر. وظهر السيسي فيها بخطاب سياسي استخدم فيه كلمة "العدو" لأول مرة منذ عقود – لو كان يقصد إسرائيل – ثم إعلان إسرائيل يوم 19 من سبتمبر عن رواية “100 مسيّرة” انطلقت من سيناء خلال شهر واحد.

عند النظر إلى كل تلك الأحداث كقطع منفصلة، يمكن أن تبدو مجرد صدفة أو حتى تصعيدًا سياسيًا إعلاميًا كبيرًا. لكنها إذا جُمعت في تسلسلها الزمني، يظهر لنا نمط يكشف عن مسرحية مزدوجة: القاهرة ترفع النبرة الإعلامية واللفظية لامتصاص الداخل وربما لتجهيزه أيضًا للقادم، فيما تؤكد في الوقت ذاته على متانة تحالفاتها عبر المناورات العسكرية مع أهم حلفاء إسرائيل في العالم. أما تل أبيب، فتوظف سردية أمنية تمهيدًا لتنفيذ مشروع التهجير الكامل من غزة إلى سيناء.


10 سبتمبر: النجم الساطع تؤكد الثوابت والتحالفات

منذ 28 من أغسطس وحتى العاشر من سبتمبر جرت مناورات النجم الساطع المصرية الأمريكية بحضور 40 دولة ما بين مشارك ومراقب. أكدت فيها مصر وأمريكا واليونان على استمرار التعاون العسكري والشراكة المتينة في الأمور العسكرية والأمنية.

تلك المناورات مثلت تأكيدًا رسميًا على أن الجيش المصري مندمج كليًا في شبكة عسكرية غربية أمريكية من عدة نواحٍ: التسليح، الدعم اللوجستي، وأنظمة القيادة والسيطرة، وكلها تمر عبر بوابات واشنطن.

كما كشفت تلك المناورات عن أن السلاح الأمريكي ما زال حاضرًا وبقوة، وهو المهيمن على العمليات الجوية التكتيكية حيث برز استخدام مصر للطائرات الأمريكية. كل تلك المظاهر تؤكد أهمية الشراكة المصرية الأمريكية وضرورة استمراريتها في مواجهة المخاطر.

هذا الارتباط يعني ببساطة أن أي مواجهة عسكرية بين مصر وإسرائيل مستحيلة واقعيًا. فالموردون الأساسيون لسلاح مصر هم أنفسهم حلفاء تل أبيب وأهم داعميها. لذا جاءت تلك المناورات بمثابة إعلان عملي أن مصر جزء من معسكر غربي–إسرائيلي واحد، مهما قيل في الخطابات والإعلام. ومن هنا نفهم أن ما أتى بعد خمسة أيام لم يكن انقلابًا على هذا الثابت، بل مجرد توزيع أدوار محسوب بدقة.


15 سبتمبر: كلمة “العدو” في سياق مزدوج

قبل يوم واحد من انتهاء المناورات العسكرية الأمريكية المشتركة، قامت إسرائيل بقصف تجمع الفريق المفاوض التابع لحركة حماس في العاصمة الدوحة. الهجوم تم دون إنذار مسبق لقطر ودون احترام لسيادتها، رغم التعاون القطري–الأمريكي في حماية المجال.

بعدها بعدة أيام، اعتلى السيسي منبر قمة الدوحة واستخدم لأول مرة كلمة “العدو” في وصف إسرائيل. أو هكذا بدا. فهو لم يقل مثلًا “العدو الإسرائيلي”، وإنما اكتفى بالكلمة معرفة بالألف واللام، لكنها بقيت نكرة في التوجيه، كما اعتادت الخطابات المصرية التي تترك دائمًا مجالًا للعودة للخلف.

بدا السيسي حينها وكأنه يفتح صفحة جديدة في الخطاب السياسي والدبلوماسي المصري. الإعلام المحلي الموالي التقط الكلمة وصاغ منها قصصًا وروايات عن عودة القاهرة إلى موقعها التاريخي وصلابتها. لكن التوقيت والسياق يكشفان شيئًا آخر.

فالخطاب جاء مباشرة بعد أن أنهى الجيش المصري مناوراته مع الولايات المتحدة. عبر تلك المناورات، أرادت القاهرة أن تقول للعالم إنها ثابتة في موقعها من التحالفات ولا تنوي تغييرها. أما الخطاب نفسه، فكان رسالة موجّهة للداخل المصري والمحيط العربي، محاولة لامتصاص الغضب الشعبي المتصاعد مع عودة الاحتلال الإسرائيلي لغزة، وتصريحات تل أبيب حول دفع أهل القطاع نحو سيناء.

في هذا السياق، تصبح كلمة “العدو” أداة سياسية لا تعكس تحولًا استراتيجيًا حقيقيًا في موقف مصر، بل محاولة لتسكين الداخل بعد أن طمأنت القاهرة شركاءها في الخارج.


19 سبتمبر: مئة مسيّرة وسردية التهديد

بعد أربعة أيام فقط، أعلنت إسرائيل أن “100 مسيّرة” عبرت من سيناء خلال شهر واحد تجاه إسرائيل. لكن الرواية بدت غير منطقية منذ اللحظة الأولى: لا صور، لا فيديو، لا أضرار، ولا حتى تحديد لمسار أو حمولة تلك الطائرات.

اللافت هذه المرة في التقارير أن إسرائيل التي اعتادت نشر صور أو مقاطع فيديو لم تعرض أي صورة واحدة لحطام المسيّرات المئة ، وهو غياب يضعف الرواية أكثر مما يعززها.

المفارقة أن معظم الأخبار التي تناولت المسيرات القادمة من مصر في السنتين الماضيتين كانت محدودة، وأعلنت إسرائيل خلالها عن إسقاط نحو خمس طائرات بشكل منفرد، قالت إن بعض تلك المسيرات كانت تحمل أسلحة خفيفة.

يبدو جليًا أن إسرائيل تحاول خلق مناخًا سياسيًا جديدًا في المنطقة تقوم سرديته على أن الجانب المصري من الحدود غير آمن ويُستخدم لتهديد أمنها. هذا قد يسهل لاحقًا أن تطلب إسرائيل بشكل دولي المزيد من الإجراءات الأمنية في سيناء، وربما توسيع المنطقة منزوعة السلاح.

ولا يُستبعد أن تطلب مراقبة دولية على الحدود المصرية. وفي حال تعثر مشروع التهجير، قد تستطيع إسرائيل بضغط دولي أن تحول شمال سيناء إلى نسخة جديدة من جنوب الليطاني: منطقة عازلة طويلة الأمد تُفصل فيها غزة بشكل كامل عن مصر.

هذا التصعيد الإسرائيلي يترافق مع يقين تل أبيب أن مصر، رغم رفعها السقف الإعلامي في التصريحات، تبقى مقيدة بتحالفاتها في المنطقة. ومن هنا، فالرواية الإسرائيلية لم تكن خبرًا عن تهديد قائم، بقدر ما كانت الحلقة الثالثة في تسلسل محسوب: مناورات تؤكد التحالف، خطاب يرفع السقف، ثم قصة تُبرر مشاريع على الأرض.


من البداية: تحالف قديم يتجدد

هذا الترتيب في الروايات لا يمكن فهمه بمعزل عن التاريخ القريب. فمنذ 2013، ارتبط النظام المصري الانقلابي بتنسيق وثيق مع إسرائيل. وقد ذكر الإعلامي المقرب من النظام المصري توفيق عكاشة أنه نصح السيسي ونظامه: “إذا أردتم أن يرضى عنكم العالم وأمريكا بعد 30 يونيو، اطلبوا من نتنياهو ذلك.”

وبالفعل، بحسب تصريح عكاشة، لعب نتنياهو دورًا محوريًا في فتح قنوات الدعم الدولي للسلطة العسكرية الجديدة.

هذه الشهادة – بصرف النظر عن عكاشة نفسه – تكشف أن إسرائيل لم تكن خصمًا لهذا النظام المصري يومًا ما، بل شريكًا موثوقًا ومهمًا في معادلة البقاء. ولهذا لم يكن مستغربًا أن يظهر في سبتمبر 2025 هذا التوزيع الواضح للأدوار: القاهرة تتحدث عن “العدو” لتسكين الداخل، بينما تل أبيب تقدم قصة أمنية تخدم مشروعها، والواقع الميداني يؤكد أن التحالف لم يتغير.

فيما تذهب مصر لاحقًا إلى قبول التهجير، إما بحجة عدم السماح لإسرائيل باحتلال سيناء، أو لتأكيد السيادة رفضًا للمطالب الإسرائيلية، أو بحجة تجنب الدخول في حروب جديدة، وآخرها الذريعة الإنسانية الخاصة بأهل غزة.


الخاتمة

إن ما يحدث هو مشهد متكامل مرسوم بعناية يقوم فيه الجيش بطمئنة الغرب، والسيسي برفع نبرة الخطاب لطمأنة الداخل العربي والمصري ،فيما تقوم إسرائيل باضافة رواية أمنية تُستخدم بعد ذلك كورقة ضغط في ملف غزة وسيناء يستخدمها النظام المصري لتبرير مواقفه في المرحلة القادمة.

العدو موجود فقط في الكلمات والخطابات، بينما الحليف والراعي قائم في الميدان، وبين الخطاب والفعل، يتم رسم ترتيبات ما بعد احتلال غزة، واختبار مستقبل سيناء، تنتظر فيه إسرائيل من حليفها المصري أن يرد لها الجميل.


مقالات أخرى
عبد المجيد صقر وزير الدفاع المصري: قائد مستقل أم ظل للسيسي
المقال السابق
عبد المجيد صقر وزير الدفاع المصري: قائد مستقل أم ظل للسيسي

إحصائيات الموقع

35
إجمالي المقالات
7
إجمالي الأقسام
1,641
إجمالي المشاهدات
1
إجمالي الكتاب
هذا الشهر
5
مقالات جديدة
303
مشاهدات جديدة
هذا الأسبوع
1
مقالات جديدة
135
مشاهدات جديدة
أكثر قسم شعبية
تحليلات سياسية
19 المقالات

الكتاب الأكثر مشاركة