مصر بين العسكر والخارج: ثلاث سيناريوهات للتغيير القادم

لقراءة أو تحميل الوثيقة
عرض / تحميلمنذ الثالث من يوليو 2013، لم تعد مصر فقط تحت الحكم العسكري المباشر كما جرت العادة منذ انقلاب يوليو 1952 بقيادة ضباط الجيش المصري حينها، بل أصبحت أيضًا رهينة مشروع إقليمي – دولي تقوده أنظمة الخليج تحت مظلة أمريكية – إسرائيلية. يهدف هذا المشروع إلى: إسقاط أي تجربة ديمقراطية ذات طابع إسلامي، وتثبيت أنظمة مطيعة وطيعة تحرس حدود الكيان الصهيوني، وتحمي عروشًا وممالك مهددة من قبل شعوبها. ومنذ ذلك اليوم، أصبحت مصر مدارة بالكامل من الخارج.
وخلال أكثر من عقد، تم تصميم المشهد المصري بعناية ليعيد الجيش إلى صدارة السلطة مرة أخرى بعد أن فقدها لمدة عام واحد، ويستأصل كل ما مثّله صعود الإسلاميين من تهديد للمعادلة القديمة في الشرق الأوسط، عن طريق فرض الاستقرار بالقوة والوحشية. ومع ذلك، يبدو أن ذلك النظام يواجه اليوم اهتراءً داخليًا لا تخطئه العين، وبدا ذلك جليًّا في كثرة القفزات من المركب التي انطلقت من قبل المحسوبين على النظام في الأيام الأخيرة، وشدة التصريحات الخليجية بشكل غير رسمي.
مصر اليوم تقف على مفترق طرق حاسم بين استبداد داخلي وضغوط إقليمية ودولية.
ثلاث سيناريوهات ترسم مستقبلها، لكن أيها سيخدم الشعب بالفعل؟
في هذا التحليل نكشف الخيارات المتاحة أمام المصريين للحصول على حريتهم، وهل هناك فرصة حقيقية لذلك أم مجرد وهم؟
الخليج... العرّاب الحقيقي لانقلاب السيسي
على عكس السردية الرسمية التي قادها السيسي منذ انقلابه، لم يكن عبد الفتاح السيسي هو من قاد هذا الانقلاب عام 2013، بل كان مجرد أداة، جرى إعدادها وتمويلها وإطلاقها من داخل غرفة عمليات إقليمية. رأس حربتها كانت السعودية والإمارات، وتنسيقها يتم تحت أعين تل أبيب ورضا البيت الأبيض. وكان السيسي حينها أكثر من مجرد ضابط طموح، بل قائدًا للجيش ووزيرًا للدفاع، مما مكنه من امتلاك مفاتيح القوة الوحيدة التي تمتلكها مصر وهي الجيش، ومع التنسيق مع الرياض وأبو ظبي اللتين بدأتا منذ اللحظة الأولى لحكم مرسي في تعبئة المشهد عبر تمويل إعلام معادٍ له، ودعم حركات احتجاجية، وتواصل مباشر مع قيادات في الجيش وما يسمى بالأجهزة السيادية.
بعد ساعات من الانقلاب، فتح الخليج خزائنه على مصراعيها، فضخوا أكثر من 50 مليار دولار في جسد النظام العسكري في مصر، ليس فقط لدعمه اقتصاديًا، بل لضمان بقائه في وجه أي حركة احتجاج، ودعمًا له في تثبيت انقلابه ومكافحة أي رغبة داخلية في التغيير أو رفض هذا الانقلاب. هذا الدعم لم يكن ماليًا فقط، بل إعلاميًا وأمنيًا واستراتيجيًا، والهدف كان واضحًا: كسر الإسلاميين، وعلى رأسهم جماعة الإخوان، ومنعهم من العودة إلى الحكم بأي ثمن.
ومنذ ذلك اليوم، تحولت مصر إلى سجن كبير، ممتلئ بالسجون الصغيرة، وفي كلا السجنين غير مسموح لأي مواطن أن يعترض أو يتأفف. وتم وأد الحالة السياسية المصرية، والتي كانت تحاول أن تشم نفسها بعد ثورة 25 يناير 2011، وتحولت مصر إلى أداة لحماية مصالح الخليج وإسرائيل معًا.
الجيش المصري... مالك الدولة لا جزءًا منها
تاريخيًا، لم يكن الجيش المصري مؤسسة غرضها حماية الدولة فقط، بل يعتبر الجيش نفسه مالكًا للدولة منذ 1952، والتي احتكر بعدها الجيش كلا من السلطة والثروة والقرار. وبمرور الوقت، تمددت إمبراطورية الجيش إلى كل القطاعات، من العقارات للزراعة، ومن الإعلام للمخابز، وحتى تنظيم الحج والعمرات.
عندما صعد مرسي للحكم كأول وآخر رئيس منتخب بخيار شعبي حقيقي، شعر الجيش بأنه ولأول مرة في تاريخه ربما بدأ يفقد جزءًا من سلطاته المتجاوزة لحد الدفاع عن الوطن، ولذلك جاء رد الجيش قاسيًا قاطعًا، مدعومًا إقليميًا ودوليًا، بقتل المعارضين. ولأول مرة نرى الجيش المصري يستخدم في مواجهة شعبه بعد أن كانت تلك من صلاحيات الشرطة والمؤسسات الأمنية.
وفي ذلك الوقت وحتى اليوم، كان منطق الجيش واضحًا: نحن أصحاب البلد، وأي سلطة مدنية يجب أن تكون مجرد واجهة لنا وبشكل مؤقت، فالجيش يرى أن المدنيين مواطنون من الدرجة الثانية، لا يليق أن تُؤدى لهم التحية العسكرية.
ولذلك، عندما أُزيح مرسي من الحكم، لم يكن السيسي وحده من يتحرك، بل المؤسسة العسكرية بكاملها بعد أن شعرت بالخطر على امتيازاتها.
تدمير ممنهج للحياة في مصر
طيلة عهد السيسي، والممتد حتى اليوم، لم تشهد مصر فقط انقلابًا سياسيًا وعسكريًا، بل شهدت انهيارًا اجتماعيًا واقتصاديًا كاملاً، حيث زادت معدلات الفقر، كما وتضاعفت الديون الخارجية على الدولة بسبب كثرة الاستدانة التي لم يستفد منها الشعب المصري، وإنما مقاولو الحكم والمستفيدون منه، وعلى رأسهم كبار ضباط الجيش.
وتآكلت الطبقة الوسطى، وتراجعت الخدمات، وتضخم دور الأجهزة الأمنية، حتى باتت مصر في حالة من الشلل الكامل سياسيًا، والتجريف المجتمعي المتعمد.
تم تهميش الشعب المصري بالكامل، وجرى تجفيف منابع السياسة والإعلام، وسُحقت الحريات. كل هذا بدعم وتمويل مباشر من الخليج، الذي لا يرى في مصر إلا حائط صد ضد الإسلاميين، وذراعًا لضبط الإيقاع الإقليمي بما يتماشى مع أمن الخليج وإسرائيل، لا مع مصلحة المصريين.
الإسلاميون تحت المقصلة الخليجية
على مدار 13 عامًا، خاض الخليج حربًا مفتوحة ضد الإسلاميين في كل مكان، خصوصًا جماعة الإخوان المسلمين، حيث لم تكن هذه الحرب سياسية أو تكتيكية فقط، بل عقائدية واستراتيجية. فالخليج لا يريد أي نموذج ديمقراطي في المنطقة، فما بالك لو كان هذا النظام ينتمي للإسلام السياسي. وهذا الرفض ليس فقط خوفًا من التمدد، بل من العدوى الشعبية المطلبية، حيث مكامن الخطورة في الخليج تأتي من فكرة أن "الشرعية تأتي من الشعب لا من الملك أو الأمير"، وهذه الفكرة كفيلة بإثارة رعب تلك الأنظمة الوراثية.
الخليج لم يكن داعمًا للانقلاب فحسب، بل كان عموده الفقري ومهندسَه، وأي حديث عن عودة الإسلاميين، أو حتى المعارضة المدنية، يبقى مرتهنًا بقرار غير مصري... بل غير وطني أصلًا.
إشارات الانهيار: من الحرائق إلى النقد العلني
لا يمكن تجاهل تكثّف سلسلة من الحرائق الغامضة في مصر مؤخرًا، لكن اللافت هذه المرة لم يكن وقوع الحرائق بحد ذاته – فهي شائعة في فصل الصيف – بل حجم التغطية الإعلامية الاستثنائية المصاحبة لها. أبرز تلك الحوادث كان حريق سنترال رمسيس، الذي حظي بتغطية مركّزة وغير معتادة، ما أثار تساؤلات حول دلالاته. في الوعي الشعبي المصري، غالبًا ما ترتبط مثل هذه الحوادث بتغيرات سياسية، كما كان الحال مع حريق القاهرة قبيل ثورة 1952، أو حريق قصر ثقافة بني سويف عام 2005، وغيرها من الحوادث في نهاية عهد مبارك، وكذلك في أيام مرسي التي تميزت بحوادث القطارات المتكررة.
في موازاة ذلك، بدأ يظهر تململ غير مسبوق بين بعض المحسوبين على النظام، ومن أبرزهم إبراهيم عيسى الذي خرج بتصريحات جريئة، وأشرف السعد الذي بدأ ينتقد علنًا تحكم السيسي المطلق في القرارات. هذا التحول قد يعكس ضيقًا داخل بعض دوائر المال والإعلام من الحكم الفردي، لكنه يُعبّر أيضًا عن توجهات الجهات الإقليمية التي تدير هؤلاء الإعلاميين، والذين غالبًا ما يتحدثون وفق أجندات غير مصرية.
ولكن يبقى السؤال الأهم: ما هي سيناريوهات التغيير في مصر، وما هي الفائدة التي ستعم على الشعب المصري منها؟
سيناريوهات التحول: أي طريق تنتظر مصر؟
بالنظر إلى الواقع المصري، فإن أي حراك يقوده الجيش لم يكن ليصب أبدًا في صالح الشعب، وإنما هو فقط حراك لإعادة تشكيل السلطة وتشكيل الطبقة الحكامة والمستفيدة من الأوضاع ضمن إطارات جديدة، وتغيير شكلي يعمل على كبح جماح الشعب، وإعادة بث الأمل من جديد في إمكانية حصول الشعب على الحرية المنشودة. كما أن أي حراك شعبي لا يرضى عنه الجيش المصري لن يمر مرور الكرام، وسيتدخل الجيش والسلطة بقوة السلاح لمنع هذا النوع من التغيير، نظرًا لكون الجيش والأجهزة الأمنية هي الوحيدة التي تملك سلطة السلاح في البلد. وهنا يأتي الخيار الثالث، وهو الخيار الخليجي في التغيير، والذي بدوره لن يفيد المعارضة المصرية من أي جهة، فالخليج هو من قاد مصر إلى هذا الوضع السيء، كما أن الخليج لديه مشاكله الخاصة مع صعود التيارات الإسلامية السياسية الفاعلة في المنطقة، لكنه قد يرضى بوصول حاكم من خلفية جهادية كما حدث في سوريا، حيث يمكن وضع هذا الحاكم دائمًا تحت ضغط الاعتراف الدولي، وإجباره على الدفاع عن نفسه بشكل مستمر وتبييض صورته، مما يجعله عبدًا ورهينًا للخليج وخططه.
لذلك، في مصر نحن أمام ثلاث احتمالات للتغيير نناقشها ونحاول أن نستنبط منها الفائدة التي ستعم على الشعب، وبالأخص الإسلاميين، حيث الكثير من الشعب ينتمي ولو عاطفيًا لهذه الطائفة، بالإضافة إلى المعارضة اليسارية.
خيار الحرب الأهلية:
على الرغم من أن هذا السيناريو سيكون مدمرًا على كل الجوانب، إلا أنه قد يؤدي – في نظر البعض – إلى تفكيك القبضة العسكرية على غرار ما حدث في سوريا وفتح المجال لتغيير جذري عبر إعادة توزيع صلاحية تملك السلاح، لكن يبقى هذا السيناريو مرفوضًا تمامًا من الخليج وإسرائيل إلا في حالات معينة.
إسرائيل قد تكون المستفيدة الأكبر من هذا السيناريو إذا ما استطاعت خلال فترة العنف استهداف الكثير من الأماكن والأسلحة الحيوية للجيش المصري، مما يؤدي في النهاية إلى أن يتحول الجيش إلى جيش مشابه للحالة السورية التي لا تستطع أن ترد يدًا لامس خصوصًا إذا كان إسرائيليا. كما أن هذا السيناريو يساعد إسرائيل كثيرًا في تنفيذ مخطط تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، وهو المخطط الذي يواجه رفضًا كبيرًا من قبل السلطة المصرية الحالية.
لكن في نفس الوقت ترفض إسرائيل والخليج هذا السيناريو خوفًا من أن تطول مدته كما حدث في الحالة السورية التي احتاجت أكثر من 10 سنوات من أجل الوصول إلى الحالة المرغوبة لدول الخليج وإسرائيل، خاصة وأن عام 2030 يمثل مرحلة مفصلية في مشاريعهم (نيوم، والتطبيع، وتحول الخليج لقاعدة اقتصادية واستراتيجية لإسرائيل).
وعلى الجانب الشعبي، قد يكون هذا السيناريو مكسبًا هائلًا في أن يحصل الشعب المصري على حريته من قبل النظام العسكري، لكنه في نفس الوقت سيكون رهينًا لأي قوة إقليمية مجاورة، مما يعني أنه سيعود ولو بعد حين إلى الحالة الأم من حيث الاستبداد والتسلط عليه.إزالة السيسي وتدوير النظام:
قد يكون خيار إزاحة السيسي من قبل رعاته الإقليميين والدوليين، واستبداله بشخصية "أكثر مرونة" مع الشعب، ومع المطالب الإسرائيلية والخليجية، ولكن مع الإبقاء على تحكم الجيش. وهذا الخيار قد يهدئ الداخل مؤقتًا كما جرت العادة، لكنه لن يصل بمصر إلى الحالة المطمئنة التي تتطلبها مرحلة ما بعد 2023، وفي نفس الوقت لا يخدم هذا السيناريو مصالح الشعب ومتطلباته في الحرية والكرامة، بل يُعيد إنتاج نفس السلطة بأسماء مختلفة.إصلاحات شكلية ودعم خارجي:
ومن الخيارات المطروحة، والتي تبدو أنها آخر خيار يمكن التفكير فيه، هو أن يُقدم السيسي بعض التنازلات الشكلية، بالإفراج عن بعض المعتقلين مع تغيير في الخطاب الإعلامي ومحاربة الفساد بحدود معينة، مقابل استمرار الدعم الخليجي والإسرائيلي. وهذا السيناريو أيضًا لا يغير جوهر الاستبداد، بل يُجمله. في نفس الوقت، سيكون على السيسي الموافقة على قضية التهجير، والتي ستؤدي به حتمًا إلى مواجهة مع الشعب بشكل أكبر من المواجهة الحالية.
الخلاصة:
من خلال هذه السيناريوهات الثلاثة، يتضح أن السيناريو الأكثر مصلحة لإسرائيل هو أن تغرق مصر في حرب أهلية أو أن توجه ضربات قوية للجيش المصري تُعيده خطوات إلى الوراء، لتسهيل تنفيذ مخططاتها في المنطقة.
أما الخليج، فيميل للخيار الثاني؛ إزالة السيسي وتدوير النظام، مع إحضار شخصية أكثر توافقية تسمح ببعض المساحات من الحرية للشعب، لكن بشكل مؤقت ومراقب.
أما الشعب المصري، فلن ينال حقوقه أو دولة ديمقراطية حقيقية، إذ تقع مصر في منطقة جغرافية صعبة تحتم على المحرك الإقليمي اعتماد الاستبداد والديكتاتورية كوسيلة للسيطرة. وكل الخيارات، سواء الحرب أو بقاء السيسي أو تدوير النظام، ستكون مكلفة على الشعب ولن تغيّر من معاناته.
في النهاية، تظل مصر محاصرة بين تطلعات شعبها، وقمع الداخل، ومصالح الخارج. والسؤال يبقى: هل يمكن للمصريين أن يخطوا طريقًا رابعًا يخرجهم من دوامة هذه السيناريوهات الثلاثة؟