تصريحات توماس باراك: قراءة في دلالات الرسالة الأميركية للمنطقة
أطلق الموفد الأميركي توماس باراك تصريحات لافتة وقاسية خلال حديثه عن أوضاع المنطقة العربية في حلقة من برنامج "الحقيقة مع هادلي غامبل" على قناة سكاي نيوز. كشفت تلك التصريحات بوضوح حدود الدور الأميركي والإسرائيلي في صياغة المشهد الإقليمي والدولي، وأظهرت حجم الارتهان الذي تعيشه الأنظمة العربية، خصوصًا الملكية منها، والتي خصها بتصريح لافت ومثير.
هذه التصريحات لا يمكن التعامل معها كآراء شخصية عابرة، بل كرسالة سياسية مقصودة تحمل دلالات متعددة على المستويين الداخلي والإقليمي، خصوصًا عندما تخرج من شخصية بهذا الحجم وهذه الصفة.
سنتوقف عند خمس محطات من التصريحات التي أدلى بها خلال المقابلة لنحللها ونقف على دلالاتها ومعانيها السياسية.
التصريحات
التصريح الأول: نحن من يحمي المنطقة لا غيرنا
"هناك مشكلة في الأمن في المنطقة، لهذا الكل يهرع إلينا مطالبًا باتفاق أمني."
هذا التصريح يعكس موقع الولايات المتحدة كمرجعية أمنية أولى ووحيدة للمنطقة. واشنطن هنا لا ترى في نفسها مجرد حليف، بل مصدر الحماية الوحيد. وهو ما يكشف عن غياب أي إرادة مستقلة لدى الأنظمة العربية، التي باتت تتعامل مع الأمن كملف مستأجر من الخارج، أو هكذا تقول تصريحات باراك.
التصريح الثاني: إسرائيل هي من تقرر كيف يكون السلام في المنطقة
"نتنياهو لم يعد يهتم بالحدود أو الخطوط الحمراء والصفراء والخضراء، وسيفعل أي شيء إذا شعر أن إسرائيل مهددة."
وفي هذا التصريح إشارة واضحة إلى إطلاق يد إسرائيل دون قيود في المنطقة وحصولها على ضوء أخضر أميركي. باراك يعلن بكل صراحة أن أي قواعد دولية أو تفاهمات إقليمية تصبح لاغية إذا رأت تل أبيب تهديدًا مباشرًا أو غير مباشر لتواجدها. هذه الصيغة وتلك الرؤية تعززان صورة إسرائيل كذراع تنفيذية للمشاريع الأميركية في المنطقة، وتعطيانها الشرعية الدولية بضمانة أميركية وبلا محاسبة.
التصريح الثالث: كفى كلامًا يا لبنان
"كل ما يفعله اللبنانيون هو الكلام… إذا لم تنفذوا خارطة الطريق، فانظروا عبر الحدود إلى القدس، هناك من سينفذ."
يوجه باراك رسالته المباشرة إلى لبنان، لكنها تحمل في طياتها رسالة ضمنية للأنظمة العربية الأخرى: العجز المحلي سيُقابَل بتدخل إسرائيلي قسري يعيد ترتيب الأوضاع. وبالتالي لن تعير إسرائيل أي اهتمام للتصريحات أو الخطابات — ما يسميه باراك "الكلام".
كما يحمل التصريح إهانة ضمنية لمؤسسات الدولة اللبنانية والجيش، وإقرارًا بأن واشنطن أوكلت مهمة "السلطة التنفيذية في المنطقة" إلى نتنياهو، بدلًا من أي مسار تفاوضي أو حتى الحكومات المحلية.
التصريح الرابع: فجاجة في مواجهة ممالك الخليج
"حلفاؤنا في المنطقة، وخصوصًا الملكيات، سيقولون إنهم ذاهبون إلى الصين… ولن يفعلوا ذلك."
يفضح هذا التصريح هشاشة أي محاولة عربية للبحث عن بدائل استراتيجية. باراك يقر بأن التلويح بالتوجه شرقًا نحو الصين أو غيرها لا يؤخذ بجدية في واشنطن.
الرسالة واضحة: لا خيار أمام حكومات المنطقة سوى البقاء في الفلك الأميركي، سواء أرادت ذلك أو لم ترد.
التصريح الخامس: لا سلام بل خضوع
"السلام وهم… لم يكن هناك سلام أبدًا… شخص ما يريد الهيمنة، وهذا يعني أن شخصًا ما يجب أن يخضع."
هذا التصريح ربما يكون الأخطر، لأنه ينفي أساس فكرة "السلام العربي–الإسرائيلي". باراك يضع المعادلة بشكل فج وصريح: لا مكان لتسويات متكافئة، بل خضوع طرف لطرف آخر، والقوة وحدها هي التي تحدد. هذه الرؤية تتقاطع تمامًا مع سردية المقاومة العربية التي تؤكد أن "السلام" مجرد غطاء للهزيمة السياسية.
دلالات الموقف
الوصاية الأميركية المطلقة: واشنطن تؤكد أنها المرجعية الوحيدة في ملفات الأمن والسياسة بالمنطقة.
إطلاق يد إسرائيل: لم تعد إسرائيل مجرد لاعب، بل أداة تنفيذية معفاة من أي قيود.
احتقار المؤسسات العربية: من لبنان إلى الملكيات الخليجية، النظرة الأميركية ترى الجميع عاجزًا عن المبادرة.
إفلاس خطاب "السلام": الاعتراف الأميركي بأن الصراع لا يُحل بتسويات، بل بخضوع، ينسف سردية الأنظمة المروجة للتطبيع.
غياب البدائل الاستراتيجية: حتى التلويح بالذهاب إلى الصين لا يُؤخذ بجدية، ما يكشف عمق الارتهان البنيوي.
رغم فجاجتها وخروجها من مجرد مبعوث للمنطقة لكنها تظهر كما لو كانت من مسؤول عن المنطقة أو متحكم فيها تأتي تصريحات توماس باراك لتمثل أكثر من مجرد رأي شخصي؛ إنها رسالة صريحة بأن القرار في المنطقة تتم صياغته في واشنطن ويُنفَّذ في تل أبيب، بينما تبقى الأنظمة العربية رهينة هواجسها الأمنية والارتهان السياسي. وفي ظل هذا المشهد، يبقى السؤال: هل تملك أي عاصمة عربية إرادة حقيقية لتجاوز هذا الواقع، أم أن "الخضوع" الذي تحدث عنه باراك صار قدرًا مفروضًا؟