حين يسبق السلاح القرار: السويداء نموذجًا لفشل الانضباط في بناء الجيوش الوطنية

لم يكن الفشل الذي منيت به الدولة السورية الجديدة في فرض الاستقرار داخل السويداء مجرد هزيمة ميدانية بل تخطت لتكون فضيحة استراتيجية كاملة، تكشف عن هشاشة مشروع الجيش الوطني الجديد الذي لا يزال يعيش على أحلام الثورة ولم يتخطى مشكلة التأسيس القديمة والتي كانت خليط من التناقضات، والانقسامات، وانعدام الانضباط.
الجيش الذي يسبق قائده
في أحداث السويداء الأخيرة، بدا واضحًا أن الرئيس أحمد الشرع ووزير دفاعه لا يمسكان بزمام الأمور في الجيش كما يجب. فبينما كانت الاشتباكات تبدأ بين بعض القوات العسكرية غير النظامية من العشائر السنية والفصائل الدرزية، اتسعت رقعة المعركة فجأة لتتحول إلى مواجهة شاملة، قرر فيها قادة ميدانيون التقدُّم إلى قلب المدينة دون العودة إلى القيادة العليا.
وبحسب شهادة بعض ممن شاركوا في هذه المعارك فإن الفرق التي أُرسلت إلى الميدان — مثل الفرق 54، 44، 70، 98 (1) وكل تلك الفرق هي مكونات مختلفة متنافرة حتى عدة أشهر مضت — تجاهلت الأوامر، ورفضت الانسحاب رغم التعليمات الواضحة بذلك لأنهم رأوا أن الطريق ممهد والدخول سهل.
ولم يكن هذا الرفض مجرد مؤشر على وجود خلل في التنسيق، بل على اختلال أعمق في البنية السياسية للجيش ذاته، إذ كيف يمكن لدولة أن تخوض حربًا بجيش يسبق سلاحه القرار السياسي؟!
تعدد الولاءات: السمّ القاتل
الجيش السوري الجديد لم يكن جيشًا وطنيًا موحَّدًا في هذه المعركة، بل تجمُّعًا هجينيًا لفصائل متباينة التوجهات، بعضها لم يدخل تحت مظلة "الجيش" إلا بشروطه الخاصة أو شروط خاصة فرضت عليه من قبل أحمد الشرع — كأن يكون القادة على تلك الألوية والفرق من قادة هيئة تحرير الشام سابقا — وبعض تلك الفصائل ما زال يدين بالولاء للمناطقيه أو القادة المحليين لهذه الفرق، لا لقيادة الدولة المركزية.
والأخطر من ذلك، أن هذه الفصائل حملت إلى المعركة نزعات طائفية ومناطقية، أضعفت شرعيتها أمام الرأي العام، ومنحت الخصوم فرصة الظهور كضحايا، رغم علاقتهم المكشوفة بإسرائيل.
إسرائيل... حين يحميك عدوك
المعركة التي اندلعت دون تنسيق سياسي متماسك، ودون مظلة جوية أو قراءة متأنية لحساسية المدينة، انتهت بفضيحة: طائرات إسرائيلية تضرب قوات الجيش السوري الجديد، بعد أن استُدرجت إلى فخّ محكم بتنسيق بين حكمت الهجري وتل أبيب حتى وإن كان هذا الفخ قد نصب مؤخرا.
ومع القرارات المفاجئة وتنوع التبعية لدى الفصائل عقب صدور قرار بسحب السلاح الثقيل من المدينة بعد دخولها بعدة ساعات ثم انسحاب بعض القادة تنفيذا للأوامر ورفض البعض أدى ذلك إلى ترك الجنود الأخرين مكشوفين فوقع بعضهم أسيرا وبعضهم قتل وبعضهم أضطر للدفاع باستماتة حتى أعاد الجيش السوري الدخول مرة أخرى بالثقيل بعد عدة ساعات تطورت فيها خرائط السيطرة بين الجبهتين.
الطائفية: العدو الذي يسكنك
رغم أن الهجري أدار معركته بطائفية مكشوفة حيث يصف جيش سوريا بأنه جيش من التفكيريين، بل واستعان بغطاء خارجي إسرائيلي عدو للبلد أصلا ومحتل لأراضيها، فإن الطائفية المقابلة من داخل الجيش السوري الجديد سلبت شرعيته الأخلاقية وأضرت بموقفه السياسي الدولي.
ولقد كانت مشاهد حلق الشوارب والتي لها رمزية هامة عند الدروز مؤسفة من جيش وطني جيش وطني، حتى لو كانت ردًّا على ما قامت به ميليشيا الهجري فإنها لا يمكن أبدا أن تخرج من قبل جيش وطني نظامي.
وهكذا، لم يعد الصراع يبدو سياسيًا، بل طائفيًا بامتياز، وتحوّل من محاولة بسط هيبة الدولة، إلى نزاع مذهبي وديني بين طرفين، لا يملك أيٌّ منهما مشروعًا جامعًا. وهذا بحد ذاته، كان انتصارًا مجانيًا للهجري، وهزيمة أخلاقية للحكومة.
السؤال الأهم: من يقود من؟
لا يمكن بناء دولة بفصائل لا تخضع لقيادة موحدة، ولا تلتزم بعقيدة عسكرية جامعة وهنا مربط الفرس حيث تكون الجيش من قبل ثوار بذلوا أرواحهم وحياتهم لتحرير بلدهم لكنهم لم يتلقوا التعليم العسكري الكافي وأخلاق الإنضباط وهذا تقصير كبير من قبل وزير الدفاع الحالي حيث لم يعمل على اعادة تأهيل الجيش السوري عسكريا وأخلاقيا ضمن منظومة الجيوش الوطنية لا الثورية حيث يقل فيها الانضباط.
إن تحوّل "الجيش الوطني" إلى منظومة فوضوية، يسبق فيها السلاح القرار، ويعلو فيها الصوت المحلي على المركز لا يعني إلا شيئًا واحدًا وهو أن مشروع الدولة السورية الجديدة في خطر.
أيّ دولة تقاتل بجنود لا يطيعون أوامر القائد الأعلى، ولا ينضبطون لقرار مركزي، ولا يتشاركون عقيدة وطنية واحدة، هي دولة تمهد لانفجار داخلي قادم، لا لهزيمة تكتيكية فحسب.
السويداء ليست مجرد معركة
ما حدث في السويداء هو جرس إنذار عالٍ لا يجب أن يمر مرور الكرام، وقد كشفت الأحداث نقاطًا جوهرية، نلخصها كما يلي:
لا جيش دون طاعة وقيادة موحدة.
لا دولة دون مشروع وطني جامع، عابر للطوائف والمصالح الفصائلية.
لا ثورة بدون أخلاق سياسية تُفرّق بين الحق والخصومة.
لا نصر مع وجود سلاح خارج القرار.
تأهيل الفصائل عسكريًا ضمن أكاديميات ومدارس حقيقية هو أمر ضروري وحتمي لضمان بقاء تلك الدولة.
لقد أثبتت السويداء أن بناء الجيوش لا يتم بالسلاح وحده، بل بالتأهيل، والانضباط، والعقيدة الوطنية الجامعة.
وهذه لحظة تستدعي مراجعة شاملة لكل ما بُني حتى الآن — لأن معركة بلا قرار، هي بداية الانهيار.
ملحقات :
(1)
- الفرقة 54 مكونة من فصيل أحرار الشام ومغاوير الشام.
- الفرقة 44 دبابات مكونة من لواء جبهة ثوار سراقب وجماعة أبو عدنان زبداني وبعض الفصائل من الجيش الوطني.
- الفرقة 70 مكونة من فصائل جيش الأسلام وفيلق الرحمن وكتائب الغوطة.
- الفرقة 98 مكونة من فصائل الجيش الحر ومعهم مجموعات من هيئة تحرير الشام.