تتناثر المقالات والفيديوهات والتغريدات هنا وهناك عن ضرورة إيجاد حل في مصر لمسألة المعتقلين والمسألة السياسية برمتها التي لأول مرة في تاريخ مصر المعاصر نصل إليها، لكن الجميع يشير بإصبع الاتهام إلى جماعة الإخوان المسلمين وأن الحل يمكن في أن تحل الجماعة نفسها أو تعلن اعتزال العمل السياسي برمته.
بيد أن كل هذه المطالب لم تصدر أبدًا خلال الفترة الماضية من إعلاميي النظام المصري أو تابعيه أو الإعلام الرديف سواء في القنوات التلفزيونية أو الصحف أو حتى السوشيال ميديا، وإنما كلها إما من داخل الجماعة نفسها أو من أطراف كانت يومًا ما داخل الجماعة بشكل أو بآخر واليوم أصبحت خارجها.
وفي رأيي يتجاهل الكثيرون من أصحاب هذه المطالب العديد من الأسئلة ولا يقدم أحد منهم جوابًا لها ولأجل التاريخ واللحظة الفارقة فإني أسطر منها ما أتذكره علنًا نجد عنها إجابات منهم.
ولكن قبل أن نسرد تلك الأسئلة فأننا بحاجة إلى توصيف الواقع المصري السياسي الحالي توصيفًا دقيقًا واضحًا، وهو برأيي ما يتمثل في التالي:
نحن أمام نظام مصري قوي مسيطر عسكريًا وأمنيًا على البلد برمتها من كل الجوانب، يستغل وجود هذه الجماعة في إبقاء الشعب مطيعًا وآمنًا بغض النظر عن طريقة الحياة أو أسلوب المعيشة، كما أن استغلال هذه الجماعة ممتد للسياسة الخارجية للنظام سواء في جلب المعونات لمحاربة الإرهاب أو في استغلال فكرة الحفاظ على أمن إسرائيل من تواجد الإسلاميين على حدودها خصوصًا بعد السابع من أكتوبر 2023 وما تم فيه من عملية عسكرية قامت بها حمـ...ـ..ـاس المحسوبة على الإخوان المسلمين مهما ادعت عكس ذلك بالنسبة لإسرائيل والأنظمة العربية والغربية.
وعلى الطرف الآخر نجد أن جماعة الإخوان المسلمين نفسها تعاني شديد المعاناة سواء على النطاق المصري المحلي أو النطاق الإقليمي أو النطاق الدولي، فغالبية الدول العربية قد صنفت الجماعة على أنها جماعة إرهابية بالفعل منذ أكثر من 7 سنوات والبعض الآخر ممن لم يصنفها يتعامل معها على أنها داعمة للإرهاب أو مؤثرة في تواجده، وعلى النطاق المحلي المصري فإن الجماعة لا تملك من الأمر شيئًا سوى انقسام ميتوزي إلى ثلاثة تيارات، كل تيار لديه مشاكل مع التيار الآخر سواء كانت فكرية أو إدارية أو استراتيجية مما يجعل المعركة داخلية أكثر من كونها معركة مع النظام المصري الحالي.
ومن خلال ما سبق يمكننا أن نقول أننا أمام نظام قوي متماسك له داعمون دوليون وإقليميون مؤثرون، مع تأثير خليجي واضح على السياسة الأمريكية في تصنيف الجماعة وصعود تيارات اليمين المتطرف أو اليمين المحافظ في غالبية دول الغرب، بينما تعيش الحركات الإسلامية بكل أصنافها أجواء من الضعف والانحدار لم يسبق أن شهدته خلال العقود الأخيرة.
وهنا يجب علينا أن نجد إجابات عن تلك الأسئلة التي تخطر على الرأس ولا يمكن تجاهلها في مطالبة الكثير بأن تحل الجماعة نفسها وأن الحل في الحل وأن النظام المصري أو الإقليمي سيتعامل مع الحل على أنه نهاية المطاف.
أول هذه الأسئلة: ما الذي سيدفع النظام المصري إلى تغيير سياساته فعليًا إذا اختفت الجماعة من الوجود؟
فالنظام لم يعتمد في إحكام قبضته على وجود الإخوان فقط رغم أنهم كانوا السبب الأهم لوجوده، بل على هندسة سياسية واقتصادية وأمنية كاملة تجعل كل مسار من مسارات الدولة يُدار بعقلية السيطرة لا المشاركة. فإذا كانت الجماعة غير فاعلة أصلاً، ومنقسمة، ومطاردة، ولا تأثير لها في الشارع أو في المؤسسات أو في الفضاء العام، فكيف يصبح حلّها سببًا لانفراج سياسي؟ وما الذي سيتغير فعليًا في ميزان القوى؟
السؤال الثاني: هل يملك النظام أصلاً مصلحة في اختفاء الجماعة؟
إذ إن وجودها—بصورتها الحالية الضعيفة—يوفر له غطاءً دائمًا للاستمرار في نهج “الحماية من الفوضى”، ويبرر به الهياكل الأمنية المشددة، ويستعمله في خطاباته داخليًا وخارجيًا. أما غياب الجماعة تمامًا فقد يخلق فراغًا يحتاج النظام إلى صناعة “عدو بديل” لملئه، وربما يفتح بابًا لمطالب سياسية لا يريد لها أن تظهر.
ثم يأتي سؤال ثالث بالغ الأهمية: هل حل الجماعة سيؤدي فعليًا إلى خروج المعتقلين؟
فالتجارب السابقة، محليًا وإقليميًا، تشير إلى أن الملفات الأمنية لا تُغلق بتنازلات من طرف واحد، بل عبر تفاهمات سياسية شاملة تشمل أطرافًا متعددة وتضمن ضمانات واضحة، وهو ما لا يقدمه أي من المطالبين بالحل. وأكثر من ذلك، فإن النظام لم يربط رسميًا يومًا بين وجود الجماعة واستمرار الاعتقال، ولم يعلن أن غيابها سيؤدي إلى خطوات مقابلة، خاصة في ظل التوجه الإقليمي الكامل المعارض لوجود أي تيار إسلامي يمارس السياسة، ولا سيما مع الدور الإماراتي المؤثر في مصر.
ولنا في الجماعة الإسلامية في مصر عبرة ودروس حتى أنها لليوم متهمة بنفس التهم رغم إعلانها المراجعات الشهيرة والتوقف عن العنف لكنها لما وقفت موقف معظم الأحزاب الإسلامية بعد يونيو 2014 أصبحت تصنف مثلها مثل الإخوان.
وسؤال رابع: من الجهة التي يُفترض أن تعلن الحل والجهة التي يفترض أن تتسلم “إعلان الحل”؟
وهل تملك قيادة الجماعة الحالية—بتياراتها الثلاثة—شرعية داخلية كافية لإصدار قرار بهذا الحجم أصلاً؟ وهل سيعترف أي طرف دولي أو إقليمي بقرار غير متفق عليه داخليًا؟ الواقع يقول إن هذا الطرح أقرب للخيال السياسي منه إلى حل عملي ولو قلنا أن هناك اتفاق داخلي فمن سيقوم بتسلم هذا القرار والتأكيد عليه واعطائه الصبغة الدولية القانونية من أجل إعلان موت هذه الجماعة والتوقف عن ملاحقة أعضائها.
سؤال خامس: إذا كانت الجماعة قد ضعفت وانحسر تأثيرها إلى هذا الحد، فما جدوى الحديث عن حلها؟
إذا كان واقعها كما تصفه هذه الأطراف، فلماذا يصبح “حل كيان ميت” شرطًا لإصلاح سياسي؟ هذا التناقض وحده يكشف عن هشاشة الفرضية التي يقوم عليها الطرح.
سؤال سادس: هل سيقتنع النظام المصري أو الأنظمة الإقليمية بأن الحل قد تم وأن الجماعة بعد الحل لم يعد لها وجود؟
وماذا عن أفراد الجماعة؟ هل ستتم ملاحقتهم بتهمة عدم التأكد من أنهم قد حلوا أنفسهم أم لا؟
سؤال سابع : كيف نحدد الشخص الإخواني من الشخص غير الأخواني ؟ هل هناك آلية محددة للأنظمة العربية والدولية لتحديد هذه المسألة ؟
ما نجده الآن هو أن كل من ينتقد أي نظام عربي خصوصا في شمال إفريقيا والخليج يتم وصفة بأنه اخواني مباشرة وفي مصر هناك الكثير من التيارات الليبرالية وغيرها بل وحتى من المسيحين من تم تصنيفهم على أنهم إخوان فقط لمعارضتهم، إذن من سيحدد ماذا ؟
وأخيرًا، سؤال ثامن: هل حل الجماعة سيحل الأزمة السياسية في مصر؟
فالأزمة المصرية أكبر بكثير من جماعة بعينها، فهي أزمة بنية سياسية واقتصادية ومؤسسية تراكمت لأعوام طويلة. اختزالها في جماعة واحدة—حُلّت أو بقيت—لن يغيّر من طبيعة الأزمة ولا من عمقها.
مثل تلك المقالات والتحليلات تحتاج إلى خاتمة، لكني سأعفي نفسي من الخاتمة هذه المرة نظرًا لعمق الأزمة وصعوبة الخروج منها دون أن يقرر النظام المصري والأنظمة الإقليمية الأخرى أن الحل يبدأ من حيث يقررون لا من حيث يقرر الطرف الآخر الذي هو في أحسن حالاته الآن كيان ميت، كما أن المطالبين بهذا النوع من الحل عليهم أن يقدموا أجوبة حقيقية لكل هذه التساؤلات والأهم من الأجوبة هي الضمانة.
مبرمج مصري وسياسي متخصص في التحليل الأمني والاستراتيجي، مهتم بالنشاط الحقوقي ودعم منظمات حقوق الإنسان تقنيا